لبنان.. انتفاضة حقيقية

ما يجري حاليا في لبنان أمر مختلف عن كل الحركات الاحتجاجية السابقة؛ إن لجهة اتساع دائرته الجغرافية والشعبية أو لجهة عفويته أو لجهة عدم قدرة الأطراف السياسية والطائفية على اختراقه.

بعد يومين من الحرائق الهائلة التي اجتاحت غابات لبنان، وكشفت عن مدى الإهمال الذي يعانيه قطاع توقُّع ومتابعة الكوارث والفساد في لبنان، اجتمعت الحكومة اللبنانية لتقرّ سلة ضرائب جديدة لمعالجة عجز الموازنة العامة، بينما لا تزال فضائح الصفقات التي كشفت هدر مئات الملايين من الدولارات في قطاعات الجمارك والاتصالات والكهرباء والسدود والتربية والصحة وسواها، حديث الناس.

قبل إقرار سلة الضرائب تلك، طالعنا وزير البيئة فادي جريصاتي بتصريحه الشهير “أنا أدفع الضرائب وسأبقى أدفع الضرائب حتى لو كنت أعلم أنها ستسرق، وأطلب من جميع اللبنانيين دفع الضرائب حتى لو تأكدوا أنها ستسرق!”. ليرد الناشطون “إذا كانت أموال الضرائب ستسرق فأنت شريك في السلطة وبالتالي شريك في السرقة، يعني من «العبّ للجيبة»، أما نحن فتطلب منا الدفع دون مقابل، هذه ليست ضرائب، هذه «خوّة»”.

منذ يوم الخميس، وإثر الإعلان عن توجه الحكومة اللبنانية إلى فرض سلة ضرائبية جديدة على المواطنين، بدأ اللبنانيون حراكهم، الذي تحول إلى انتفاضة شعبية، انطلقت من بيروت ومنها انتشرت في كل المناطق اللبنانية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب وفي البقاع بكل أقضيته. ولسان حال المتظاهرين جميعا يقول “لقد طفح الكيل!”.

في بيروت، تحرك المتظاهرون الذين تزايدت أعدادهم بتواتر سريع حتى بلغت الآلاف، عبر شوارع وسط العاصمة من جسر الرينغ فساحة الشهداء إلى منطقة الصيفي ثم إلى ساحة رياض الصلح المتاخمة للقصر الحكومي.

كانت كل الهتافات والشعارات المرفوعة تدين قوى السلطة مجتمعة وصولا إلى المطالبة باستقالة كلّ من يحتلون مواقع في مؤسسات السلطة باعتبارهم المسؤولين عمّا وصلت إليه حال اللبنانيين من تدهور طال كل مجالات حياتهم بما في ذلك لقمة العيش والحريات العامة.

غير أن نقاط تظاهر أخرى ظهرت في المشرفية التي تصل بيروت بالضاحية الجنوبية، حيث قطعت الطرقات الرئيسية، وما لبث المتظاهرون أن توجهوا إلى طريق مطار رفيق الحريري الدولي في محاولة لقطعه.

وبالتزامن عمّت التظاهرات المنددة بفساد قوى السلطة مجتمعة ضواحي بيروت الشمالية وطريق بيروت الشمال، وكذلك مختلف المدن والبلدات اللبنانية: النبطية وصيدا وصور وطرابلس. كما قطعت الطرقات الرئيسية في عموم البقاع والشمال والجنوب.

ليست المرة الأولى التي يعبر فيها اللبنانيون عن غضبهم من السياسات الاجتماعية والاقتصادية المدمرة التي اتبعتها، ولا تزال، القوى السياسية المسيطرة منذ عقود والتي ألقت بثقلها على الطبقات الشعبية التي توسعت دائرتها باطّراد نتيجة تدمير الطبقة الوسطى وانحدارها.

لكن، على ما يبدو، إن ما يجري حاليا أمر مختلف عن كل الحركات الاحتجاجية السابقة، إنْ لجهة اتساع دائرته الجغرافية والشعبية أو لجهة عفويته أو لجهة عدم قدرة الأطراف السياسية والطائفية على اختراقه.

والأهم من كل ذلك هو ما نلاحظه في كل المناطق اللبنانية: انقلاب ما كان يسمى بالحاضنات الاجتماعية على القوى الطائفية التي تتحصّن فيها. فعلى مدى اليومين الأخيرين شهدت مدينة النبطية تحطيم واجهات نواب حزب الله وشهدت مدينة صور هتافات وشعارات منددة برئيس مجلس النواب نبيه بري وزوجته رندة بري، وفي طرابلس تم تحطيم مكتب التيار الوطني الحر. وفي مناطق مختلفة احتشد المتظاهرون أمام منازل ومكاتب النواب والزعماء السياسيين وأضرموا النار في الإطارات المطاطية.

عفوية الانتفاضة واندفاعتها، جعلت الشارع اللبناني يتّحد بقوة في وجه قوى السلطة. وزجت بالآلاف في الشوارع من دون أي شعارات حزبية أو طائفية. الهتافات كلها تندد بقوى السلطة مجتمعة، لا تستثني أحدا.

قوى السلطة بدت مذهولة صامتة لا تبدي أي كلام أو تصريحات باستثناء بيان لوزير الاتصالات أكد فيه إلغاء ضريبة جديدة على اتصالات الوتساب والإنترنت التي أقرتها الحكومة في جلستها الأخيرة. وبعد نقل جلسة مجلس الوزراء التي كانت مقررة يوم الجمعة في السراي الحكومي إلى قصر الرئاسة في بعبدا، تم الإعلان عن إلغاء هذه الجلسة التي كانت مخصصة لإقرار مشروع موازنة 2020.

زخم الشارع واتساع رقعة التظاهرات حيّدا تدخل أجهزة الأمن والجيش، التي اكتفت بمراقبة حركة الشارع باستثناء الصدام الذي حدث على تخوم السراي الحكومي في ساعة متأخرة من ليل الخميس الجمعة حين اخترق المتظاهرون الحاجز الأمني المفروض حول السراي ووصلوا إلى باحته الخارجية حيث انهمرت عشرات القنابل المسيلة للدموع على المتظاهرين ليتم تفريقهم. لكن التجمعات استمرت طوال الليل لتستأنف صباح الجمعة بزخم كبير في شوارع بيروت وساحاتها وفي مختلف المدن والبلدات.

وبسبب قطع الطرقات الرئيسية في عموم البلاد دخل لبنان في حالة شلل تامة أو إضراب عام غير معلن. فمعظم المؤسسات أغلقت أبوابها باستثناء المستشفيات والصيدليات وبعض محلات السوبرماركت والمؤسسات المحلية الصغيرة، فيما أعلنت روابط الأساتذة والمعلمين الإضراب يومي الاثنين والثلاثاء القادمين.

لا يمكن الآن توقع النتائج السياسية المباشرة والفورية لهذه الانتفاضة. إلا أن الشارع أكد سيطرته خلال الساعات الماضية، فيما لا تزال قوى السلطة ومؤسسات الدولة تحيط نفسها بالصمت المعلن، لكن الاتصالات بينها لم تهدأ طوال الليل. وزيرة الداخلية ريا الحسن تحاول إثبات جدارة في التعامل مع الوضع فتركز على ضرورة فتح الطرقات، ولكنها كمن يعيش خارج الواقع وتطوراته.

وفي الوقت الذي ارتقى فيه الشارع بمطالبه من المعيشي إلى السياسي، وبادر المتظاهرون إلى إحراق صور الرؤساء الثلاثة وصورة حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله، مؤكدين على استقالة الحكومة ومطالبين رئيس الجمهورية بالاستقالة وبحل مجلس النواب وبانتخابات تشريعية مبكرة، يتساءل المراقبون عن آفاق مثل هذه الاحتمالات ومآلاتها. فهل يتمكن الشارع من بلورة خياراته السياسية؟ وهل يتقدم رئيس الحكومة سعد الحريري باستقالة حكومته؟ وحينذاك، هل نعتبر أن السياسة المالية المتبعة حتى الآن قد سقطت في الشارع ومن يقدم البديل؟

*العرب