تقرير عربي- ولاية عدن.. أهلاً بالفوضى

تختلف الصورة داخل عدن، عاصمة الجنوب اليمني، كثيراً عما يُقال أو يُنقل أو يُكتب. فالمدينة لم تعد كما كانت، وواقعها أصبح شديد التعقيد حتى على مَن امتهن العمل في ادارة شؤونها لنحو عقدين ونصف، اي منذ الوحدة الاندماجية بين الشمال والجنوب العام 1990.

ومع إعلان تنظيم «الدولة» مسؤوليته عن التفجيرات التي استهدفت مقرّ «الحكومة اليمنية»، ومقر القيادة المركزية لـ «التحالف العربي» في قلب عدن، دخلت المدينة فصلاً جديداً يُضاف على ما سبقه من تراكمات حقب الاندماج والحرب الاهلية والصراع الداخلي وصولاً الى الحرب الأهلية الجديدة التي تصاحبها حرب السعودية على النصف الآخر من البلاد.

عدن اليوم ليست عدن الأمس. هناك وفي مثل هذا الوقت من العام 2014، وبرغم مرور ايام على «الانقلاب الحوثي»، كانت الامور تسير برتابة سلسة، بدت مقبولة من جميع المنخرطين في «النضال» السياسي الجنوبي، حيث دأب الحراك الجنوبي ومعه مكوّنات مختلفة على تنظيم احتفالات وفعاليات واعتصامات شبه يومية داخل المدينة، وبالتحديد في ساحة العروض في منطقة خورمكسر. فهناك كانت الأمور تشبه الى حد بعيد، صرفاً شبه يومي لطاقة شبابية اقتربت من النفاد. وكان الاعتصام المفتوح وقتها قريباً من الفشل. واستعدّت النخب السياسية المحلية للدخول في فصل أهدأ من التعاطي مع الحكومة المركزية في صنعاء، بما أن الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي كان الأكثر دراية بأهل الجنوب، حيث عمل على تذويب العضلة الشبابية للحراك الجنوبي والجمعيات الأهلية في بوتقة واحدة من الأجهزة، كاللجان التابعة له وكذلك في الأجهزة الأمنية او تلك التابعة لمحافظة عدن بإشراف مباشر من شقيقه ناصر منصور ومحافظ عدن وقتها عبدالعزيز بن حبتور.

وعلى هذا المنوال لم يتوقع أحد صورة مشابهة لما سارت إليه مصائر أهل عدن في الشهور الأخيرة. وفي هذا الجانب، وبمعزل عن سياسات «أنصار الله» والرئيس السابق علي عبدالله صالح، تبدو المدينة بما تمثل من «قضية جنوبية» أكثر ميلاً نحو الدخول في دوامة عنف لم تعهدها من قبل. فالخلافات العقائدية والمذهبية والسياسية وحتى التاريخية، بدأت تطفو في شوارع عدن وأزقتها. ولشدة ما أعطتها سياسة «عاصفة الحزم» من زخم ومدلول، ولكثرة الحديث عن جعلها بديلاً «آمناً» و «موقتاً» من صنعاء، أضحت الوجهة الأكثر استقطاباً لكل المنخرطين في القتال ولكل المتسلقين والطامحين.

دخول «تنظيم الدولة» بفرعه اليمني على خط المواجهة، يؤشر الى مسار الأحداث في الفترة المقبلة، وهو الذي تسرّب على ما يبدو الى قلب «عاصفة الحزم» مستخدماً تكتيكات «القاعدة» القائمة على «تعويم» الذات من خلال العمليات «النوعية»، خاصة بعد أن أصيب التنظيم في مقتل إثر تخفيف الداخل والخارج من حجمه ومستوى تأثيره عقب العملية التي استهدف فيها مساجد في صنعاء خلال آذار من العام الجاري، والتي شككت الولايات المتحدة وكذلك أقطاب عربية في حقيقة وقوفه وراءها. هذه الحادثة دفعت قادة التنظيم على ما يبدو للتفكير جدياً بنقل عملياتهم من منطقة العبر في محافظة حضرموت الى أماكن أكثر «شعبية» من أطراف الصحراء، وبالتالي تنطلق العمليات من خلف خطوط «القاعدة» وهي المنافس الأول لتنظيم «الدولة»، على «الكعكة السلفية الجهادية» في اليمن.

يحاول تنظيم «الدولة» من خلال إعلانه المسؤولية عن هجمات عدن، استباق كل محاولة ممكنة لـ «القاعدة» لإنشاء خلايا او معسكرات، وبالتالي استثمار بيئة حاضنة ربما باتت جاهزة بعد الزخم الطائفي الهائل الذي وصلها من «ايديولوجية» الحرب السعودية على اليمن، وكذلك أخطاء الحوثيين وحلفائهم في معارك سابقة كالضالع مثلاً. وهكذا، فإن انشغال قاسم عبده محمد أبكر الريمي «أبو هريرة» أمير «تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» بإعادة هيكلة تنظيمه ودراسة موقعه الحالي في قلب الحرب الدائرة، شكل الفرصة التاريخية لتنظيم «الدولة» للعمل داخل التجمّعات السكنية الكبرى بدلاً من استخدام تكتيكات التنظيم في الشام والعراق، والقائمة على إيجاد معقل محصّن والتوسّع في كل اتجاه ممكن انطلاقاً منه. وهي السياسة التي استخدمها أمير القاعدة السابق في اليمن ناصر الوحيشي الذي قُتل في 12 حزيران 2015 بغارة لطائرة من دون طيار في مدينة المكلا.

في قلب عدن، تبدو الأمور أكثر استعداداً لتقبل التنظيم وأدبياته، فقد أغرقت وسائل الدعاية المصاحبة للحرب السعودية، النوادي والجمعيات الأهلية المحلية وبطبيعة الحال الميليشيات المناوئة لصنعاء، بسيل من الأدبيات الطائفية «شاحذة» الهمم، وباتت الحرب مع «الشماليين» من حوثيين وجيش يمني «جهاداً مقدساً» مفروضاً على الجنوبيين، كما هو الحال على افراد الجيش السعودي. وعادة ما تفضي هذه الأجواء الى خلق بيئة حاضنة لـ «القاعدة» ومثيلاتها. وبرغم عدم انخراطه بالقتال المباشر الى جانب القوات الخليجية والمحلية في قتال الجيش و «انصار الله»، يستعدّ تنظيم «الدولة» لحصد غلاله من معترك الدم اليمني، خاصة في ظل الأسباب التي مهدتها له الفوضى وصنّاعها والتي يمكن اختصارها بثلاثة.

السبب الأول ـ تفتيت الأجهزة الأمنية للدولة المركزية في محافظة عدن. وهنا نعود إلى الاشتباكات الأولى التي وقعت في المدينة، عندما حاول الرئيس عبدربه منصور هادي في الثالث من آذار الماضي إقالة العميد عبد الحافظ السقاف من قيادة فرع قوات الأمن الخاصة الموالي للرئيس السابق علي عبد الله صالح، وتعيين العميد ثابت جواس الموالي للسعودية بديلاً منه. وهذا ما افضى الى معركة المطار الشهيرة وما تلاها من هجوم على «معسكر الصولبان» وهو معسكر قوات الأمن الخاصة المجاور للمطار في منطقة خور مكسر بقيادة وزير الدفاع الموالي لهادي محمود الصبيحي. فيما كان اعتماد هادي في هذه المعركة على رجال «اللجان الشعبية» التي أسسها شقيقه ناصر وأحضر معظم عناصرها من منطقة أبين. وبهذا فإن الممثل الأول «للشرعية» المركزية في اليمن شرّع الباب أمام استهدافها وجعلها كياناً خارجاً عن محيطها الجنوبي، مطبقاً أيديولوجية «غلاة» الحراك الجنوبي القائلة بوجود احتلال شمالي في الجنوب اليمني، وفي الوقت ذاته معطياً الضوء الأخضر لتشكيل تنظيمات مسلحة بديلة بمعزل عن خلفياتها العقائدية.

السبب الثاني ـ فشل إدارة الإمن في عدن بعد السيطرة عليها، وبالتحديد مقترح «الإدارة الأمنية» الذي قدمه القائد الفعلي لميليشيات الحراك الجنوبي العميد عيدروس الزبيدي، والذي يقضي بتسليم «الإدارة الاماراتية» في عدن مسؤولية إعداد خطة أمنية عاجلة لحماية امن المدينة بحيث تتكفل قوات «الحراك» بتنفيذها، وهذا ما أقلق الإماراتيين ومن خلفهم الرياض. فالعلاقة مع «الحراك الجنوبي» ما زالت مرتبكة حتى في ظل الدور الكبير للأخير في العمليات العسكرية البرية، فيما تؤكد قيادات جنوبية أن العيدروس عاد وقدم خطة أعدّها مع ضباط أمنيين سابقين لإدارة عدن وحمايتها من اي توغل «غير مرغوب». لكن رفض «التحالف الخليجي» لها جاء بسبب تركيزها على مكافحة خلايا ومجموعات «حزب التجمع اليمني للإصلاح»، وهذا يتعارض مع مصالح السعودية وقطر في إدارة الحرب اليمنية، برغم إظهار ابوظبي حماسة لتطبيقها.

السبب الثالث ـ الإدارة الفاشلة للحرب على الإرهاب في زمن عبدربه منصور هادي. وبمعزل عن إمكانية حدوث تآمر او تواطؤ، فإن النتيجة النهائية لحرب الجيش اليمني على «القاعدة» خلال منتصف صيف العام 2014 في مناطق أبين وشبوة، كانت كارثية بامتياز، حيث أسهمت في إعادة انتشار عناصر «القاعدة» في محافظة حضرموت، بعدما سُمح للتنظيم بالخروج الآمن من المنطقتين تلبية لما قالت صنعاء وقتها إنها وساطة قبلية. وهذه الوساطة بطبيعة الحال أفضت إلى شرعنة موقتة للتنظيم في عدد من المناطق، وسمحت له بالعمل والتواصل مع قيادات محلية بحجج مختلفة منها صفقات تحرير المخطوفين ودفع الفديات، وهذا ما مهّد الطريق أمام «القاعدة» ولاحقاً تنظيم «الدولة»، للتحوّل الى جهة تمتلك «شرعية اجتماعية».

لا تظهر في الأفق أي ملامح لاقتراب تسوية بين المتقاتلين، كما لا تبدو فكرة الحسم العسكري قابلة للتحقيق وعلى جانبَي الخندق. لكن الواضح أن الأمور تسير بخطوات سريعة نحو إنتاج تعقيدات إضافية أكثر دموية. فصل «القاعدة» في اليمن، خاصة في مغامراتها في أبين معقل الرئيس عبدربه منصور هادي، وكذلك جرائمها المتنقلة في السابق من حضرموت إلى البيضاء، يبدو نزهة امام القادم. فعملية «كي الوعي» الجارية على قدم وساق في الجنوب اليمني لتحويل الاشتراكيين الى تكفيريين، في سبيل استثمار «غلوّهم» الجاهلي في قتال الآخر، هذه العملية قد ترسم خطوط تماس جديدة، او تفضي الى اختراقات عسكرية نسبية، لكنها في الوقت ذاته تؤسس لثورة مجتمعية قد تحيي مع الوقت فكرة ربط العراق باليمن، إنما بفعل «تنظيم الدولة»، وليس بفعل نظام بعثي على الحدود الشمالية لشبه الجزيرة العربية واشتراكي في جنوبها.